Bright Moon - قمر منير: by Mohamed Abdel Moneim
ليس بالمُستَغرَب أن يطالعنا "محمد عبد المنعم" في معرضه الراهن، بهذه النُخبة من نتاج طرحه الإبداعي الجديد، تحت مظلة تلك الثيمة Theme القَمَرِيّة، بدءًا من العَتَبة العنوانيّة، التي نَلِجُ من خلالها مداخل أعماله التصويرية المعروضة - "قمر منير" - مرورًا بحضور ذلك القرص الفضيّ، قاسمًا رمزيًا مشتركًا في الكثرة الغالبة من تصاويره تلك، وانتهاء بالإحالات المَجازيّة Allegorical والتأويلية، التي تَبُثُّها مركزية الحضور القمري في نسيج العناصر البصرية، وحشد العلامات والمفردات التي تَمورُ على أسطُح لوحاته جميعًا في تجربته الحالية.
ويكمُن سرُّ نفي الاستغراب عمّا سَلَف في ارتكانِ "عبد المنعم" بذلك إلى رصيدٍ حضاريٍّ ضاربٍ في أعماق القِدَم، مُتَّسِعٍ بانفساح رقعة العالم، تمَركَز فيه القمر، فيما لا يُحصى من الأساطير، والأعمال الفنية، والمعتقدات، ليُتَرجِمَ عمّا اعتمل في أعماق وجدان الإنسان - على امتداد مسيرته التاريخية - من مشاعر وخيالات، اقتَرَنت فيها النوازعُ الحِسّيّة بالوَجد الروحي، وتشابَكَت في مستوياتها العميقة رموزٌ جَمعيّة، وأنماطٌ أوَّلِيّة Archetypes جَسَّدَت رؤاه وتصوراته، حول الخَلق، والميلاد، والهوى، والرغبة، والجَدَل الخَلّاق بين قوى الطبيعة، وبين طاقتَي الذكورة والأنوثة، وحول الموت، والمصير والمآل.
فـ"محمد عبد المنعم"، مِن ثَمّ، يجتاز من خلال تجربته الراهنة سبيلًا وعرًا؛ إذ إن الاستناد إلى دعائم الموروث الحضاري، والمَتح من مصادرها، واستلهام مَكنوناتها ومَضامينها، هو في حقيقة أمرِه رهانٌ خطر، ما لم يؤتَ الفنانُ القدرة على تطويع مرجعياته، لصالح رؤيةٍ شاملةٍ ذات خصوصية، تتيح للمُتَلَقّي إمكانيات استقراء أطروحاتٍ بصريّةٍ معاصرة، حتى ولو ربطتها أواصر الصورة والمفاهيم بمرجعياتٍ سالفة.
والأمرُ نفسُه ينسَحِبُ على المرجعيات الفنية، التي قد تمثل تراكماتٍ في ذاكرة أي فنانٍ معاصر، لما سبق وأن تَمَعّنَ فرائدَه، أو تأمَّل أداءاتِه وأساليبه وحلوله، من أعمال الأساطين السابقين، من رواد الفن شرقًا وغربًا، فتصيرُ مِن ثَمّ مرشّحةً للاستلهام، أو للاستحضار العفوي، أو لإعادة الاشتغال والمعالجة. وقد نلمَسُ شيئًا من ذلك في تجربة "عبد المنعم" الحالية، من خلال حلولٍ بصرية، وشخوصٍ، وتراكيب سطحية، تستحضرُ في ذاكرتنا البصرية أصداء عوالم الرائد "حامد ندا"، أو بعض رموز مُجايليه، من فناني جماعة "الفن المعاصر". غير أننا سرعان ما ننتبه إلى فرادة التراكيب التي يطالعنا بها "عبد المنعم"، وإلى براعته في المصالحة بين حشدٍ وفيرٍ من الإحالات الرمزية، والأسطورية، والشعبية، ونَسجِها بمهارةٍ في تضاعيف مرجعياته الفنية والحضارية، على نحوٍ مَكَّنه من الخلوص إلى نتائجَ تُحسَبُ له على مستويَي التجديد والتنويع. من جانبٍ آخر، لا يمكن إغفال أثر المستجدات التي أتاحتها طرائقُ البحث في سياقات تاريخ الفن، والتي وصل بها "بيكاسو" سابقًا إلى حدودٍ قُصوى، من خلال اشتغالاته القصدية على مرجعياتٍ لأعمال أساطين كُثُر، من بينهم: "بوسان" Nicolas Poussin، و"جويا" Francesco Goya، و"فيلاسكيز" Diego Velasquez، و"مانيه" Edouard Manet، وغيرهم، مستخرجًا من بعض أعمالهم، على شهرتها، رؤىً جديدةً تنتَسِبُ له وتحمل بصمته الأسلوبية. وليس بالمستغرَب - مرة أخرى - أن تكون أطروحة "عبد المنعم" للدكتوراه حول "إبداعية الأداء في التصوير عند ماتيس وبيكاسو"، مرتَكَزًا أكاديميًا، أتاح له فهم هذه المسارات بعمق، وإدراك حدود الإمكانيات التي يمكن الخلوص إليها من الاشتغال على المرجعيات، شريطة دوام الاستهداء برؤيةٍ ذاتيّةٍ واعية.
ومع توالي التطور التاريخي، وبزوغ المفاهيم التي تأسست عليها فنون مرحلة "ما بعد الحداثة" Postmodernism/ Postmodern art، وما تلاها من انتشار لمقولات الفن المعاصر Contemporary Art واستقرارها في صُلب الحراك الفني الدولي، اكتسبت تلك المقارَبات القائمة على إعادة المعالجة أهميةً خاصة؛ نظراً لتناغُمِها مع أفكارٍ أساسية لمرحلة "ما بعد الحداثة"؛ وفي مقدمتها مناداة مُنَظّري تلك المرحلة بإعادة قراءة مُجمَل الموروث الفني العالمي.
وتتجلّى فرادة أسلوب "عبد المنعم"، من خلال استطاعته التوليف بين هذه المستويات المتعددة، من الأفكار، والرموز، والمرجعيات، وبين ذاكرةٍ حاشدةٍ، تفيضُ بتجارب ذاتيةٍ، وجولاتٍ في أماكن تحمل أصداء التاريخ، وعبير الحكمة الشعبية، طالما اجتازها "محمد عبد المنعم" سيرًا على قدميه، وعاش في أكنافها متأملًا نبض حكاياتها، وملامح قاطنيها، مُختَبِرًا أوجاعهم، وراصدًا تناقضاتهم، ومُقتَنِصًا خَفايا ما يُبطِنون من نوازع وأحاسيس، ومُفارَقات ما يُعلنون من تهاويم وتصوراتٍ.
فنتاجُ تجربة "محمد عبد المنعم"، في سياق ما سبق، أشبهُ ما يكون بنَبتَةٍ، تضرب جذورها في أراضٍ تبدو للوهلة الأولى قاصيةٌ في مدى بُعد إحداها عن البقية؛ فمِن أرض الذاكرة والخبرة الحياتية والمعايشة الذاتية، إلى أرض التَمَرُّس الأدائي والصياغة الأسلوبية، إلى أرض النبش في المرجعيات والبحث في تراث التراكم الحضاري، إلى أرض التأمل مدلولات الرموز والعلامات، وفي تشابكات المفاهيم وتناقضاتها.
ويصعب فهم خصوصية المنطق اللوني في أعمال "محمد عبد المنعم"، دون الانتباه إلى سَلَفِه الشرعي الكامن في أَسقُف المعابد والمقابر في مصر القديمة؛ فهذه الدرجة من عُمق الزُرقة، الضاربة في صميم الوجود والعدم، يصعب توظيفها إلا مِن لَدُن فنانٍ سبَر موروثَه تأمُّلًا، وخبر اقتران الأزرق بدرجات الألوان الترابية في (بالِتّة) المصري القديم، ذلك الاقتران القائم على ائتلاف ألوان لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة عَددًا، لكنها قادرة على توليف إيماءات الطيف اللوني على اتساع مداه. وعلى رغم أن "عبد المنعم" يُمعِنُ في بعض الأعمال توليفًا لدرجاتٍ لونيةٍ أكثر عصرانيّةٍ واشتقاقًا - كتلك الهالة البنفسجية الجريئة المحيطة برأس أنثى لوحة "القطط"، أو ذلك الاستحضار الصادح للأبيض المتخلل فصوص البِنية التكوينية في لوحة "إيقاع طبلة-زمن قديم"، على سبيل المثال لا الحصر - فإن المنطق العام للمنظومة اللونية التي يتبناها هنا يظل رهنًا بمرجعيته المصرية القديمة.
والمتأمل لأعمال تجربة "محمد عبد المنعم" الحالية لا يلبث أن يتوقف مَلِيّا أمام حنكة البناء ووثاقة التكوين؛ فبرغم ذلك الزخم الحاشد من العناصر البصرية، الذي نختبره في أغلب الأعمال، لم تنفَلِت مفردات "عبد المنعم" من عقال الخُطَط التصميمية التي وضعها لِتَنتَظِم شتاتَها، وهو ما يكشف عن قدراتٍ فنانٍ بصيرٍ بأدواتِه، يُدرِك كيفية المُصالحة بين الكثرة والوحدة، ويعي أصول التأسيس التكويني، على النحو الذي يُقَيِّضُ له تَمتينَ الصِلاتِ بين عناصره وعلاماته، مُصَمِّمًا لكل عملٍ ما يُوائمُ مضمونه ومَنطِقَه الحركي واللوني، في قوالب تكوينيةٍ رصينة، برغم تمرُّدها في بعض الأعمال على بعض قواعد البناء المألوفة. غير أن أميَزَ ما يميز المنطق التكويني لدى "محمد عبد المنعم، هو إجادته توظيف قيمة التوازن بين الرأسي والأفقي، عند توزيعه لكتل المباني وأجساد الشخوص، وقدرته على الموازنة بين المساحات الصمّاء المُصمَتة وبين الفجوات التي تتخللها؛ وهو ما يظهر في لوحاتٍ على غرار: "أرض القمر"، و"العاشقان ونسمة الجنوب"، و"القط والثعبان"، و"رائحة الزمان"، و"مدخل الأحاسيس المكبوتة"، و"نوت وقاهرة العاشقين"، على سبيل المثال.
وعلى مستوى العلامات البصرية، نلاحظ حضورًا تكراريًا لبعض الرموز البصرية - بخلاف القمر - منها القط، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بإحلاتٍ حِسّيّة، تتخلل كثرةً من التصورات الرابطة بين جموح الأنوثة واشتعال أُوار الرغبة، وتتواشَجُ مع رمزية الثعبان، ذلك الكامن في قصة الخطيئة الأصلية، وسبب الغواية التي أقصَت الأبوَين من الفردوس - هي إذَن ليست بالمصادفة أن نجد التفاحة بين الذكر والأنثى في لوحة "البحث في الذاكرة"! - دع جانبًا اقتران مجسمات القطط الفخارية بتماثيل ربّات كريت القابضات على الأفاعي في الحضارة المينويّة Minoan Civilization.
وارتباط الثعبان وثيقٌ بالأنثى/القمر، فيما لا يُحصى من المرجعيات الحضارية العالمية؛ فالكاتب الروماني "أبوليس"، الذي دخل في ديانة "إيزيس" بعد شيوعها في الإمبراطورية الرومانية، وصار أحد كهنتها سنة 200 بعد الميلاد، يعلن في كتابه الكلاسيكي المشهور The Golden Ass وحدة التجليات في نموذج الأم القمرية الكبرى، بقوله: "فتحت عيني ورأيت قمراً بدراً متألقاً يطلع من البحر... بدأ خيال امرأة يطلع من وسط البحر... كان شعرها الطويل ينسدل جدائل ... وكان أفعوانان ينتصبان من يدها اليمنى واليسرى".
والأمر نفسه ينطبق على رمزية السمكة، التي نشهدها جَلِيَّةً في "حديث المساء أمام منزل"، وفي "خصوبة"، تلك الرمزية التي تتجَذَّرُ كذلك في صُلب المنظومة الأنثوية/ القمرية؛ إذ تعود جذور أسطورة عروس البحر إلى آلهة البابليين السمكية التي ارتبطت بالشمس والقمر؛ حيث مثلت القمر الإلهة "أترجاتيس" Atargatis، على هيئة نصف امرأة ونصف سمكة.
فاستحضار "محمد عبد المنعم" لهذه المنظومة الرمزية، التي تتمحور حول القمر/ الأنثى، والتي تتشَعَّب إلى منظومةٍ من العلامات البصرية المتشابكة، يكشف إذَن عن بعض ما تحفل به هذه التجربة من اكتنازٍ للدلالات والمفاهيم، ويُنبئُ بأننا بإزاء تجربةٍ تستَوجِبُ التأمل لاستشفاف ما يَحُفُّها من تجليات.
قمر منير
لوحات تستعيد رصانة التصوير المصري الحديث وخصوصيته
-------------------------------------------------------------
تستضيف قاعة آزاد للفنون في الزمالك بداية من 31 أكتوبر حتى 11 نوفمبر معرضاً لأعمال الفنان محمد عبد المنعم تحت عنوان "قمر مُنير". يضم المعرض مجموعة كبيرة من أحدث أعمال الفنان المرسومة بخامة الألوان الزيتية على مساحات كبيرة ومتوسطة. عنوان المعرض مستلهم من العنصر الرئيس والمكرر في أغلب الأعمال المعروضة، وهو القمر المُكتمل، الذي يلقي بظلاله الفضية على أجواء اللوحات، ما يؤكد المنحى الأسطوري الذي يخيم على معظم الأعمال. تبدو أعمال الفنان محمد عبد المنعم أميل إلى عوالم خيالية أو خرافية، وهي عوالم يستلهم الفنان مُفرداتها وعناصرها من الموروث المصري والإنساني بشكل عام، من ملاحم وأساطير وحكايات شعبية ورموز.
في هذه الأعمال يوظف الفنان مفرداته البصرية تلك ليُعبر بها عن الواقع المعاصر، وهي أعمال يتخذ خلالها الجسد الإنساني مكان الصدارة بين عناصر اللوحة، إذ يتم توظيفه بصرياً عبر تشكيلات وعلاقات بنائية ولونية متنوعة. الأجواء هنا ليلية، تتخذ من ضوء القمر مظلة لها، ما يلقي على العناصر أجواءً سحرية أو غرائبية أحياناً؛ أجواء تتحرك خلالها العناصر والمفردات وتتفاعل بندية مع ظلالها وانعكاساتها، وتلتحم مع الجمادات والزخارف من حولها.
التعبير في أعمال الفنان محمد عبد المنعم مفعم بالحركة دائماً، فالعناصر في صراع دائم ومحتدم، ومستغرقة في حوار صامت أو معلن مع محيطها المفكك. تتحرك هذه العناصر في أغلب الأحيان فوق أرضية راسخة من درجات لونية تستدعي روح الأصباغ المستخدمة في تلوين الرسوم والكتابات التي تُزين جدران المقابر والمعابد المصرية القديمة. في هذه الأعمال يتمثل الفنان محمد عبد المنعم محيطه البصري، بما فيه من ذكريات وصور وخيالات، ليعيد صوغه من جديد مُغلفاً بأحلامه ومخاوفه، ورؤيته الذاتية لهذا الواقع، ليخرج لنا في النهاية بهذا المزيج البصري بالغ الثراء والتعبير.
يستعيد المعرض المقام في جاليري آزاد جماليات البناء التصويري للفن المصري الحديث في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كما يعيد روح السجال الذي كان محتدماً حينها حول مفهومي الأصالة والمعاصرة، هذا السجال الذي كان مدفوعاً بحماس البحث والتنقيب عن ملامح وصيغ بصرية مستمدة من الثقافة والهوية الوطنية.
-----------------------------------------------------